المجتمعات العربية في دراسات الباحثين الغربيين .. جهل أم تجاهل
من قراءتي في بعض الأبحاث ، وجدت ظاهرة منتشرة لدى الباحثين الغربيين وهي أنهم إما يجهلون أو يتجاهلون حقيقة مهمة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة وهي أهمية الترابط الاجتماعي والعاطفي. فيسهل أن نستشعر افتقادهم لفهم سبب ظاهرة ما في دراساتهم المسحية فيفسرونها بكونها ظاهرة سلبية. متجاهلين أو متغافلين حقيقة أنه من الضروري وضعها ضمن السياق الاجتماعي والثقافي والديني لفهم أهمية تلك الظاهرة لبناء مجتمع متماسك سليم. والكارثة أنهم حين يربطونها بقيم وعادات كانت معروفة في تراثهم لكنها اندثرت وتلاشت تحت ما يسمى التطور والحداثة، فيزداد الأمر سوءاً ويزداد التفسير قتامةً. فمثلاً ، خلال قراءتي مؤخراً لكتاب “Religion’s Sudden Decline: What’s Causing it, and What Comes Next?” ل Ronald F. Inglehart
لاحظت ميل الكاتب لمجتمعات الدول الاسكندنافية ومن ثم الدول ذات الدخل القومي المرتفع باعتبارها مجتمعات تتمتع بالانفتاح على الآخر (الغرباء) ، وأن المجتمعات في جميع الدول ذات الغالبية المسلمة مجتمعات أقل تقبلاً للغرباء. استخلص الكاتب ذلك من دراسة مسحية لعينة من مختلف الدول. فمثلاً في سؤال حول ديانة الجار ، وجد الكاتب أن 31٪ من العينة في الدول ذات الغالبية المسلمة لا يرغبون في أن يكون جيرانهم من ديانة مختلفة ، في حين أن من يرفضون ذلك هم فقط 4٪ من دول الشمال الاسكندنافي و6٪ من الدول “الغنية”. وترتفع هذه النسبة بشكل طفيف في الإجابة على السؤال حول أن يكون الجيران من المهاجرين أو العمال الأجانب لتصل إلى 34٪ في الدول المسلمة و9٪ في الدول الاسكندنافية. النسبة تزداد بشكل كبير في الأسئلة الأكثر حرجاً وأهمية ، فقد وافق 32٪ من العينة من الدول الاسكندنافية و80٪ من الدول ذات الغالبية المسلمة على أنه يتوجب على أصحاب العمل إعطاء الأولوية لـلمواطنين على المهاجرين في الحصول على الوظائف عندما يعاني المجتمع من شح في الوظائف.
لكنّ الملف للنظر ، أنه في الوقت الذي تبدو فيه المجتمعات في الدول الغير مسلمة منفتحة أكثر على تقبّل الآخرين ، تبدو أنها أقل انفتاحاً على المجتمع الداخلي ، الأسرة وخاصة العلاقة بين الوالدين والأبناء. حيث وافق بشكل مؤكد فقط 9٪ من العينة من الشمال الاسكندنافي و 23٪ من الدول ذات الدخل المرتفع على أن أحد الأهداف الرئيسية في حياتهم هو جعل والديهم فخورين بهم ، بينما كانت النسبة 71٪ من الدول المسلمة. وهذا يعكس الارتباط العائلي بين الآباء والأبناء في المجتمعات العربية. والسؤال هو ، هل الانسلاخ على العلاقة الطبيعية بين الوالدين وأبنائهم صفة تدل على التطور والتكامل في المجتمع والانفتاح على الآخرين؟ الأكثر غرابة هو أهمية دور الأبناء في رعاية والديهم حال المرض. فقد اعتبر 24٪ من مواطني دول الشمال الاسكندنافي و48٪ من مواطني الدول الغنية (الغير مسلمة) أنه يتوجب على الأبناء تقديم الرعاية لوالديهم حال المرض. في حين اعتبر 87٪ من مواطني الدول ذات الغالبية المسلمة أن رعاية الوالدين واجب على الأبناء حال مرضهم. ختاماً فقد اعتبر 71٪ من مواطني الدول المسلمة أن إنجاب الأطفال هو جزء من المسؤولية المجتمعية تجاه مجتمعاتهم ، في مقابل 11 ٪ فقط من مواطني الدول الاسكندنافية و21٪ من مواطني الدول الغنية من يرون ذلك.
التعارض بين النتيجتين مثير للدهشة حقيقة ، فكيف ينسجم أن من لا يهتم بوالديه وحالتهم الصحية منفتح أكثر على الغرباء وحقهم في الحصول على الوظائف حتى لو كان هناك عجز في الوظائف للمواطنين من ذات البلد. وقد قالت العرب “لا خير في من لا خير فيه لأهله”. وهذا مما لا يفهمه غالبية الباحثين الغربيين المشجعين على الحداثة والتطور مع إهمال آثارها الاجتماعية والنفسية وحتى الاقتصادية على الفرد والمجتمع. وفي سياق الدين الإسلامي ، وهو جانب يحملونه على محمل الإساءة لمجتمعاتنا ، فنستذكر قوله صلى الله عليه وسلم “ خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”. وكما قال الشاعر جهاد جحا: إِنَّ الَّذِي لا خَـيْـرَ فِـيْــهِ لَأهله فَلِغَيْـرِهِمْ مِنْ باَبِ أَوْلَـى فَاعْلَمِ
من يرتجي منه الوداد فإنه كَالـمُــرْتـَجِي طَعْمَ الْـحَلَى مِنْ عَلْقَمِ
لذلك ، فأرى أنه من الواجب على الناقدين والباحثين العرب والمسلمين التركيز على أهمية وضع الأمور في سياقها الطبيعي. فالبيانات تدل على أن المواطنين في الدول المسلمة لديهم شعور بالانتماء والارتباط مع العائلة والمجتمع وهو أمر مثير للفخر والاعتزاز وله أهمية على سلامة الفرد والمجتمع ، حتى لو ادعى المخدوعون بالحداثة عكس ذلك. ولذلك فإن الخصائص التي يتمتع بها الجار مهمة عند المجتمع المسلم لما يترتب على تواجده بجوارهم من واجبات والتزامات بينهم وبينه ضمن الظروف الاجتماعية وطبيعة المجتمعات. إن لم يكن التزاماً لما ورد في الدين الإسلامي عن أهمية الاهتمام بالجار كما قَالَ الله تَعَالَى: “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ” وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو “ ما زال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنه سيورِّثُه”. بل إن للجار واجبات وحقوق تعارف عليها العرب حتى قبل الإسلام ، فكما قال عنترة العبسي: إني لأحمي الجار من كل ذلة *** وأفرح بالضيف المقيم وأبهج
لذلك فإن من الخصائص التي يطلبها المرء في جاره ما يشمل الأصل والدين والحالة الاجتماعية والمادية ليكون التكامل بين المجتمع أكثر طبيعية ويكون الجيران أكثر انتماءً لبعضهم البعض وهو ما تعززه وتسعى له أغلب المجتمعات في الدول ذات الغالبية المسلمة. وفي حين ينخفض ذلك الانتماء في الدول والمجتمعات الغير مسلمة ، ليس بما يؤثر على العلاقة مع الجار فقط ، وإنما لتشمل الوالدين والأبناء ومحدودية طبيعة الواجبات والالتزامات بين الأفراد وتحولها إلى حقوق والتزامات بين الفرد والنظام الاجتماعي ككل بدلاً من الفرد والأسرة والمجتمع المصغر ضمن الجوار والله المستعان.
المزيد من المقالات ذات الصلة؟
فيما يلي بعض المقالات ذات الصلة التي قد ترغب في قراءتها: