الانضباط الذاتي: رحلة تبدأ بخطوة ولا تنتهي إلا بتحقيق الذات

يحاول الكثير منا مرارًا تحسين مسيرته والسعي نحو النجاح، سواءً كان ذلك بتخطيطٍ مدروس أو دون تخطيط. لكن الانضباط والالتزام هما أهم مفتاحين للنجاح بعد وضع الخطة الواقعية. سواءً أكان ذلك النجاح أكاديمياً، وظيفياً، صحياً أو اجتماعياً. فكل نوع من هذه النجاحات يحتاج خطةً واضحةً وسعياً دؤوباً دون كللٍ أو مللٍ لتحقيق ما نصبو إليه. هل تسعى إلى النجاح في دراستك، أو الحصول على جسم صحي ورياضي؟ أو تحسين دخلك ووضعك المالي؟ كل هذا يبدأ بوضع الخطة، ثم الالتزام بها بانضباط ذاتي لا يجبرك عليه أحد سوى ذاتك. مع أهمية تجديد هذا الانضباط كلما شعرت بأنك ابتعدت عنه، فمسيرة الناجحين مليئة بمنعطفات وصعود وهبوط. ولتحسين انضباطك الذاتي، أسرد لك فيما يلي نقاط مجملة خبرتها بشكل شخصي، وأثبتت نجاعها الكثير من المصادر والدراسات.

1. كتابة المهام والأنشطة التي تريد الالتزام بها بشكل واضح

اهتم بوضع خطة نية تنفيذ واضحة وكاملة بحيث يمكنك المباشرة بالنشاط دون الحاجة إلى تفكيرٍ أو اتخاذ قرارٍ لاحقاً. وكلما كان النشاط واضحًا ومترابطًا دون حاجةٍ لاتخاذ قرارٍ قبل المباشرة به، ازداد التزامك بتنفيذه وارتفعت فرص نجاحك في ذلك. ومن خلال قراءتي لكتاب العادات الذرية، يوضح المؤلف جيمس كلير مفهوم نية التنفيذ بالنموذج الآتي:

سأقوم بـ [السلوك] في [الوقت] في [المكان].

هذه الخطة، على بساطتها، تحمل في طياتها عزماً واضحاً، مرتبطاً بزمانٍ ومكانٍ محددين في جدول حياتك اليومي.

2. ربط المهام والأنشطة الجديدة بنشاط أو أنشطة اعتدت عليها

ومما يعزز التزامك بالنشاط الجديد، ربطه بعادة مألوفة اعتدت القيام بها والتزمت بها كنشاط اعتيادي، لا يتطلب منك تفكيراً مسبقاً أو تردداً في تنفيذه. ورغم أن هذا الأسلوب قد يبدو في البداية مرهقًا أثناء إعداد الخطة، إلا أن أثره العميق في تعزيز الالتزام بالتنفيذ ثابت ومؤكد بالتجربة. ومن أجل ذلك، يمكن توسيع الخطة المقدمة في النقطة الأولى أعلاه لتصبح على النحو التالي:

سأقوم بـ [السلوك/النشاط] في [الوقت] و[المكان] بعد [النشاط السابق] وقبل [النشاط اللاحق].

إن وضع هذه الخطة المترابطة يخفف الجهد الذهني المطلوب لبدء النشاط، ويجعل الانتقال بين المهام أكثر سلاسة وانسياباً. فترابط الأنشطة وتتابعها يجعل الانتقال من نشاط إلى آخر عمليةً تلقائيةً لا تتطلب عناءً إضافياً، ويحد من مساحة التفكير التي غالباً ما تعيق الانطلاق. وكلما كانت الأنشطة السابقة واللاحقة من العادات اليومية المألوفة، زادت فرص الالتزام بالسلوك أو النشاط الجديد. كما أن تسلسل الأنشطة الناجحة يولّد شعورًا متصاعدًا بالإنجاز، ويغذّي الرغبة في مواصلة العمل وتحقيق مزيد من الأهداف.

ومع ذلك، لا تنسَ أن التخطيط للراحة جزء من خطة الإنجاز، فكما تحتاج إلى تحديد أوقات العمل، تحتاج أيضًا إلى فتراتٍ منتظمةٍ لاستعادة طاقتك وتجديد نشاطك، لتظل قادرًا على الاستمرار بعزيمة واتزان.

3. من خمسة إلى واحد… قاعدة العدّ التنازلي

قدمت ميل روبنز في كتابها “قاعدة الثواني الخمس” أسلوب العد التنازلي من خمس ثوانٍ. وهي طريقة أثبتت عدة دراسات ومراجع علمية فاعليتها في تحسين الأداء والإنجاز، سواء في أبسط السلوكيات اليومية كالنهوض من الفراش، أو في المهام الأكبر مثل كتابة المشاريع، أو الالتزام بممارسة التمارين الرياضية.

تعتمد هذه القاعدة على الصدق مع الذات والانضباط الفوري. فعند البدء بالعد من خمسة إلى واحد يتحفز الدماغ تلقائيًا للدخول في حالة التنفيذ، مما يقلل فرص التردد والمماطلة. وكل ما عليك فعله هو أن تبدأ فور انتهاء العد، دون تفكيرٍ أو تبريرٍ إضافي. لكن يجب التنبه إلى أن إعادة العدّ أو التردد يفقد هذه القاعدة جوهرها الأساسي، وهو الانتقال المباشر من مرحلة التفكير والمماطلة إلى مرحلة الفعل والتنفيذ دون تأجيل أو كسل. فجوهر القاعدة يكمن في التحفيز اللحظي الذي يمنحك دفعة مباشرة للإنجاز قبل أن يتدخل العقل لتثبيط القرار.

4. لا تتحدث عن مشاريعك وأهدافك، واجعل إنجازاتك تتحدث

الالتزام بهذا الأمر ضروري جداً، وينبغي عدم التحدث عن المشاريع والإنجازات سوى لمن يمكنه متابعتك وتقديم النصح أو النقد البناء أو المشورة الصادقة. فإن اعتاد الشخص الحديث عن أهدافه قبل تحقيقها، تدخل حالته الذهنية في مرحلة المكافأة لمجرد الحديث دون تنفيذ، ويفرز الدماغ هرمونات الشعور بالإنجاز، فيخمل العمل.

بل وقد تصل الأمور إلى ما هو أسوأ، فيعتاد من هم حولك على سماع أهدافك الموعودة، بينما لا يرون سوى التسويف والتأجيل، فيكونون كمن يسمع جعجعة ولا يرى طحناً. وقد يدخلك ذلك في دوامة من الضغوط أنت في غنىً عنها. دعك من الكلام، واستمتع برحلة الإنجاز، ودع الحديث عن أحلامك وأهدافك لإنجازاتك بعد أن تثمر؛ فالإنجاز الصامت أبلغ من ألف نيةٍ معلنة.

5. ابدأ بخطوات صغيرة جداً مهما بدت لك غير ملحوظة

اعتمد في تحقيق نجاحاتك على تكديس النجاحات متناهية الصغر. وتذكر أن أصغر وحدة في بناء الإنسان الخلية، التي يستحيل أن ترى بالعين المجردة، وأن الجبل الشاهق الراسخ أساسه ذرات لا وزن لها. قد يبدو حمل الجبل مستحيلاً، لكن تكديس ذراته مفردة غير مرهق، وهكذا هي طموحاتك، تُبنى شيئًا فشيئًا.

هل تود ممارسة القراءة اليومية وإنجاز قراءة عشرات الكتب سنوياً؟ ابدأ بقراءة صفحةٍ واحدةٍ يومياً! هل تود ممارسة الكتابة؟ اقرأ صفحة، وبعد أن تعتاد على القراءة اكتب 50 كلمة يومياً، واجعلهما عادة خفيفة مرتبطة بعادة أخرى كشرب كوب من القهوة صباحاً أو في وقت المساء بعد أن تنهي أعمالك المنزلية وقبل النوم.

بعد أن تلتزم بكتابة 50 كلمة يومياً، ستجد أنك تكتب بطلاقةٍ أكبر وسلاسة أكثر، فقد جهزت المكان المناسب والأدوات اللازمة وشحذت عقلك بالكثير من عادات الكتابة، وقد تجد في لحظة ما أن ما تكتبه في ليلة يتجاوز ما كنت تقرأه في أسبوع كامل. احذر من السعي نحو كمال الإنجاز في لحظات انطلاقك الأولى، فمشاركتك في ماراثون خلال أسبوعك الأول في ممارسة الرياضة قد تكون نتائجها كارثية، وقد تخسر كثيراً بذلك.

6. اجعل إنجازاتك مرئية لك، مهما كانت صغيرة

اجعل إنجازاتك ملحوظة لك عبر تدوينها في مفكرة حائط في المكان الذي يغلب تواجدك فيه، سواء في غرفة المعيشة، بجوار التلفاز، أو على طاولة المكتب.

فرؤيتك لمسيرة إنجازك تعزز رغبتك في المضيّ قُدُمًا بدافع داخليّ. هل تمكنت مثلاً من الالتزام بالقراءة لأسبوعٍ كامل دون انقطاع؟ أو هل تمكنت من المشي أكثر من خمس كيلومترات يومياً لمدة أسبوعين؟ دوّن ذلك، وحدد الأيام التي أنجزت فيها، وحدد ما أخفقت فيه وسببه، لتجنبه قدر استطاعتك. فإنك حين تلحظ مقدار التقدّم عبر الأيام، يتغذى داخلك شعورٌ بالتحفيز، ويعمّق ذلك التزامك الذاتي بالاستمرار في بناء سلسلة الأيام الناجحة. وكل ما عليك فعله هو ألا تكسر تلك السلسلة.

7. ابتعد عن كل ما يثبطك

تحفز الأحداث أو الأماكن أو الأشخاص أنماطاً سلوكية متنوعة. فقد يذكرنا مكان ما بنجاحنا أو تعثرنا سابقاً ويعزز فينا الشعور بتكرار ذلك أو الخوف منه. قد يحفزنا صديق ما على الالتزام بروتين النجاح أو يحثنا على كسره. وقد تضعف سلسلةٌ من الأنشطة أو الأحداث قدرتنا على السيطرة على سلوكنا. والحل المثالي يكمن في الابتعاد عن كل ذلك قدر الإمكان والتخلص منها عبر إيقاف المحفزات قبل أن تبدأ، لتعزز فرص نجاحك وتحول دون السماح لما يثبطك أن ينال منك ومن إنجازك.

إن الابتعاد عما يثبطنا يعزز فينا الشعور بالتقدم، والسماح لها بالوصول إلينا ينقلنا من حالة النجاح والتقدم إلى حالة الدفاع والتوقف، وهي حالة يندر أن ينجح فيها الشخص. فالنجاح لا يقوم فقط على ما نفعله، بل أيضًا على ما نتجنّب فعله.

8. استخدم قاموساً إيجابياً، وابتعد عما يثير السلبية

لنتفكر قليلاً في الفرق بين قول “اعتدت فعل ذلك” والاعتياد عليها بدلاً من “عليَّ فعل ذلك”. ما الفرق بينهما؟

إن التفكير بما يتوجب علينا الالتزام به أو تجنبه على أنه عبء يشكل حاجزاً مهدداً لفعالية الاستمرار. لذلك ينبغي التعاملَ معه بطريقة التعزيز الإيجابي الذاتي من خلال تعزيز التفكير بالمكافأة بدلاً من التركيز على الحرمان. فمن يمتنع عن شراء فطيرة مع كوب القهوة أو آخر منتج تقني كهاتف جوال وتحويل تلك المبالغ لتنمية رصيده المالي واستثماره قد يشعر أنه حرم الاستمتاع كالآخرين. وقد يتساءل في قرارة نفسه، لم لا أتمتع بالحرية المالية المطلوبة للشراء؟ مع ما يرافق هذا من شعور بالانكسار والحاجة والحرمان. لكن الأفضل أن ننظر إلى الأمر بمنظورٍ إيجابي منطلق من فكرة “لقد اعتدت على شرب القهوة من دون فطيرة” أو “لا أنوي تغيير هاتفي الذي ينجز ما أحتاجه” خاصة أنني أسعى إلى “تحقيق عائد استثماري جيد يمكنني من شراء تلك الفطيرة وترك مكافأة مجزية للمضيف في المقهى”. بهذه الطريقة، ننتقل من خانة الحرمان وبذل المجهود وإنكار الذات إلى خانة المكافأة ووفرة المردود وتعزيز الذات، ما يمنحنا الدافع المطلوب للالتزام الذاتي دون الحاجة للمحفز الخارجي. بل الأفضل أن يدفعنا ذلك إلى تنويع مصادر دخلنا، لتحقيق الرفاه المالي والاستقرار النفسي، أو حتى الوعي المالي المستدام.

وكمثال آخر، قد يشعر الشخص بالمجهود والحرمان من بعض الأنشطة الاجتماعية عند الالتزام بممارسة الرياضة في وقت محدد للحصول على اللياقة والصحة، لكن يمكنه أن ينظر إلى ذلك من منظور الحفاظ على الصحة والعيش السليم في المستقبل. إن تغيير مفرداتنا اليومية ليس ترفًا لغويًا، بل استراتيجية ذهنية لإعادة برمجة الذات وتعزيز قدرتها على الإنجاز.

9. ابدأ الآن ولا تنتظر الجهوزية الكاملة

لا تؤخّر عملك طمعًا في إعدادٍ أفضل أو جاهزيةٍ أعلى، فمعظم الناجحين يتندرون على بداياتهم التي لولاها لما بلغوا ما هم عليه اليوم. أتقن ما تريد فعله بنسبةٍ مقبولة، وأعِدّ ما تستطيع من عُدّة، ثم ابدأ فورًا.

لا تنتظر أن تتقن اللغة أكثر، أو تحترف المهنة بشكل أكبر، أو أن تحقّق نتائج أفضل. واجعل لنفسك قاعدة ثابتة: أفضل وقتٍ للبدء كان أمس، لكن خير وقتٍ له هو اليوم، والآن تحديدًا. وكذلك، مهما بدا لك الوقت متأخراً، فالبدء الآن أفضل حل لكسب أفضل النتائج، فالتأجيل والمماطلة لا يعودان عليك بأي نفع. فكل ما يمكنك السيطرة عليه هو يومك الذي تعيشه ولحظتك هذه تحديداً.

ورد في كتاب الزهد لابن أبي الدنيا عن الحسن البصري قوله: الدُّنْيَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: أَمَا أَمْسِ فَقَدْ ذَهَبَ بِمَا فِيهِ، وَأَمَّا غَدًا فَلَعَلَّكَ لَا تُدْرِكُهُ، وَالْيَوْمُ فَاعْمَلْ فِيهِ.

وهذه عين الحكمة، فالأمس قد مضى ولن يعود ولا نستطيع تغييره، والغد لا سيطرة لنا على ما سيحدث فيه الآن سوى بالتخطيط له، واليوم هو ما نملك تغييره والتأثير بأحداثه. فابدأ اليوم، وفي هذه الساعة تحديدًا، لتحقيق أفضل إنجاز ممكن، وتعزيز ما ستنجزه غدًا من خلال تراكم التزاماتك بالعادات الجيدة والبناءة. فابدأ اليوم، ففي كل لحظة تأجيل تضيع فرصة بناء الغد الذي تتمناه.

ختاماً: الانضباط عادة لا موهبة

وفي نهاية المطاف، تُجمع الدراسات والتجارب على أن النجاح لا يصنعه الأكثر موهبة، بل الأكثر التزامًا؛ فـالانضباط الذاتي هو ما يحوّل النية إلى عادة، والعادة إلى إنجاز. إنه ليس موهبةً فطرية، بل سلوك يُبنى بخطواتٍ صغيرةٍ، ومثابرةٍ صادقةٍ، ورؤيةٍ إيجابيةٍ متجددة.




المزيد من المقالات ذات الصلة؟

فيما يلي بعض المقالات ذات الصلة التي قد ترغب في قراءتها:

  • انتقاء الأصحاب وأثره على نجاحك
  • تغيير إدارة البيئة الافتراضية من Conda إلى Python
  • المجتمعات العربية في دراسات الباحثين الغربيين .. جهل أم تجاهل
  • عوز العلاقات في زمن وسائل التواصل الاجتماعي
  • الخسارة ... خير الدروس لمستقبل أفضل